بدت السماء فوق مكة في تلك الليلة وكأنها قد جُرحت بشدة بشفرة صدئة - رمادية، دامية، ومثقلة بسحب سوداء كأحشاء قربان مكشوفة. لم تتحرك نسمة هواء. كان الهواء ينضح بالغبار والكبريت، وبدأت الأرض تحت قرية الكادية تئن - صوت يرتفع من أعماقها، كعظام عملاق مدفون تتكسر.
لم يكن النزوح مجرد زلزال؛ بل كان تمزقاً في نسيج العهد القديم الذي حمى البشرية لقرون.
داخل الكوخ الطيني، الذي تفوح منه رائحة الزيت المحترق والدم المعدني، كانت مريم تصارع الموت. اختلط عرقها البارد بالغبار المتساقط، مكونًا عجينة غطت وجهها الشاحب. وقف صقر، الرجل الذي نحتت القسوة ملامحه كالصخر، حارسًا عند المدخل. اشتدت قبضته على مقبض خنجره حتى ابيضت مفاصله، وعيناه مثبتتان على الشق الزاحف على الأرض، الذي يقسم عالمهما الصغير إلى نصفين.
انطلقت صرخة مريم الأخيرة، لم تعد صرخة بشرية، بل صرخة مزقت أوصال الوجود نفسه. وبينما اهتزت الأرض وتحطمت جرار الماء الطينية، انزلق سلطان إلى الحياة.
لم يبكِ الطفل.
ظهر في صمت، وشعره الأبيض ينسدل كخيوط فضية، يلمع في الظلام ببريقٍ مُقلق. انفتحت عيناه الزرقاوان الواسعتان - عينان تحملان نقاء الصقيع وعنف العاصفة - تحدقان في أطلال الكوخ بذهولٍ عتيق. فجأةً، نبض كتفه الأيسر بوهجٍ قرمزي عميق، وكأن النار تحرق جسده برمزٍ يحترق تحت الجلد. وعلى طول ذراعه الأيمن امتد خطٌ أزرق داكن، كعرقٍ من الماء المالح، ينبض بقوة العناصر الأربعة.
انقطع نفس مريم لحظة سحب السلطان يده الأولى. انحنى رأسها إلى الجانب، وثبتت عيناها على السقف المنهار، كما لو أنها صبت حياتها كلها في ذلك الجسد الصغير ذي الشعر الفضي.
كان الموت هو الثمن الأول الذي دُفع مقابل النبوءة.
انفتح الباب الخشبي بقوة تحت وطأة ركلة عنيفة. دخل الشيخ عبد الرحمن، وعباءته السوداء ترفرف كجناحي غراب ضخم وسط الغبار. كان يحمل في يديه حزمة بيضاء تنبعث منها أنفاس هادئة - هادئة بطريقة مقلقة للغاية.
قال الشيخ بصوتٍ كصوت حجارةٍ تُطحن ببعضها: "لقد ماتت مريم يا صقر، ولكن العالم قد بُعث من جديد في هذا الركام".
وضع الرزمة بين ذراعي الأب المفجوع. "هذا خالد. بذور الظلام لا تنبت إلا في ترابٍ مُرطّب بدم الأم. يحمل أحدهما نور النذير - شعر أبيض وعلامات عنصرية. ويحمل الآخر ظلام السر الذي إما أن يحميه... أو يخنقه. ربّيهما معًا. السيف لا يعرف اليتم، والإيمان هو الدرع الوحيد الذي لا ينحني أمام زحف الشياطين."
مرت عشر سنوات كأنها نصل يُسحب على حلق الأرض.
لم تعد مكة مجرد مدينة للصلاة، بل أصبحت حصنًا منيعًا، يحرسها رجالٌ بقلوبٍ كالصخر وجباهٍ متصدعةٍ من نورٍ خافت. في ساحة التدريب، وسط غبار أجياد ورائحة العرق والصدأ، تقابل سلطان وخالد وجهاً لوجه.
كان السلطان، بشعره الأبيض اللامع تحت أشعة الشمس كضوءٍ مُزاح، يمسك بسيفٍ خشبي مُثقل بالرصاص. وكانت عيناه الزرقاوان ثابتتين، كبحرٍ هادئ قبل العاصفة.
كان خالد، ذو الشعر الأسود القاتم والملامح التي تلتهم الضوء، يتربص على الحافة، وخنجره المغطى بالقطران يلمع كأنه ناب أفعى.
انقضّ سلطان أولاً، ضارباً الأرض بقوة، وناثراً حفنةً من التراب على وجه خالد كخدعةٍ وتشتيتٍ للانتباه، ثم هوى بسيفه الثقيل في ضربةٍ علويةٍ عنيفةٍ مزقت الهواء بصيحةٍ حادة. لم يتراجع خالد، بل انزلق تحت الضربة بحركةٍ انسيابيةٍ حتى لامس صدره الرمال، وشعر بحرارة جسد سلطان تحرق عنقه.
استدار خالد، موجهاً ركلة خلفية نحو كاحل سلطان، لكن سلطان قفز، ملتفاً بجسده في الهواء، وضرب بمرفقه ظهر خالد المكشوف. تكسر العظم. انقطع الهواء عن رئتي خالد وهو يسعل دماً بلون الصدأ، لكنه لم يسقط.
استدار خالد، وامتلأت عيناه فجأةً بسواد حالك، كما لو أن حبراً قد سُكب فيهما. برد الجو. امتد الظل تحت قدميه بشكل غير طبيعي، مشكلاً مخالب تشبه مخالب الأخطبوط التي انزلقت عبر الرمال بسرعة جنونية، والتفت حول ساق سلطان.
صرخ السلطان حين سرى قشعريرة في عظامه. حاول التخلص من قيوده، لكن الظلّ انطبق عليه كالفولاذ المطروق. ثم انفجرت علامة النار على كتفه. انبعثت حرارة هائلة من جسده، وتصاعد البخار بينما أحرقت قوة فطرية قيود الظلّ - قوة لم يفهمها بعد.
"كافٍ!"
دوى صوت صقر من شرفة القلعة: "انزلوا إلى الهاوية. لقد أحدثت عملية الإزاحة ثغرة شمال المدينة، وقد التقط هادر رائحتكم. أحضروا لي رأسه، وإلا سأدفنكما أنتما الاثنين في تلك الحفرة."
داخل الثغرة، كانت الرائحة لا تُطاق - كبريت ولحم بشري متعفن منذ زمن طويل. من الشقوق السوداء انبثق الوحش: كتلة من اللحم والريش الأسود، تنتهي أطرافه بشفرات عظمية تقطر منها مادة لزجة. صرخ الوحش صرخة هزت الجدران، ثم انقض على السلطان، ومخالبه تمتد نحو صدره.
انقض السلطان جانبًا، فشعر بمخلب يخدش كتفه ويمزق سترته. ركز غضبه في ذراعه. من الرمز الأزرق على طرفه الأيمن، انفجرت نافورة من الماء المثلج اصطدمت بصدر الوحش، فأوقفت هجومه في الهواء.
انتهز خالد الفرصة، وانطلق كالسهم على ظهر المخلوق، وغرز خنجره الحديدي في التجويف خلف أذنه. انتفض الوحش، وضرب خالد بجناحه العظمي، ثم قذفه على جدار الصخر بصوت ارتطام مروع.
رأى السلطان أخاه ينهار - محطماً - والعالم وقد تلاشى لونه. لم يبقَ سوى اللون الأحمر.
اندفع نحو الوحش بيديه العاريتين، ممسكًا بفكيه. أحرق المخاط جلده، لكنه تجاهله، وواصل فتح الفكين بقوة حتى تمزقت الأوتار وانفصل العظم عن الجمجمة.
سقط الوحش بلا حراك.
وقف سلطان فوق الجثة، والدماء السوداء تتساقط منها، وشعره الأبيض ملطخ بالرماد، وأنفاسه تزمجر كالنار. ركض إلى خالد، الذي كان يمسك قميصه الممزق بيد ملطخة بالدماء وهمس بصوت ضعيف.
"أنا... أنا لم أهرب. أليس كذلك؟"
أجاب سلطان وهو يمسك بيده، وعيناه الزرقاوان تشتعلان بدموع حارقة: "لم تفعل ذلك قط. ولن تتركني أبداً".
من الأعلى، راقب صقر ابنه والطفل الذي تبناه، وهو يعلم أن القسط الأول من ثمن النبوءة قد دُفع - وأن مكة لم تعد آمنة لأي منهما.
فبينما كان السلطان يحرق الظلام بنوره، كان خالد ينمو داخل ذلك النور كبركان ينتظر الانفجار.
وتحت الأرض، ابتسم أباطرة الشياطين على عروشهم العظمية.
لم تبدأ المواجهة الحقيقية بعد.
