سماء صافية بالافق،و شمس حامية تطوف بين احمرار السماء ناشرتا الدفئ للأراضي الميتة.
التلوج الدموية ذابت بالكامل،لتظهر الاراضي الترابية من تحتها ببطئ.
جثث الكاتوران مبعثرة بالارجاء،جثث مشوهة،اطراف بدون جسد،و جثث مطعونة بشدة.
اكواخ مدمرة،حطامها مبعثر كأنها أحجار متناثرة بعد عاصفة هوجا،و بعضها عليه اثار الاحتراق.
الرياح تعوي في الأفق، حاملة معها رائحة الحديد والدم، بينما الغربان تنعق بصوت مشؤوم، تحوم فوق الجثث.
لكن،و في منظر غريب،انتشرت اشكال غريبة بالمكان،اعمدة غامضة زرقاء اللون،شاهقة الارتفاع،ينمو فوقها فطر ازرق اللون في معظم اجزائها.
كانت اعدادها قليلة و متفرقة حول المستعمرة،و جذورها الزرقاء الداكنة تمتد من قاعدتها، متشابكة مع التربة الرطبة وتتسلل بين الجثث المبعثرة.
الارض،التي كانت يوما تعج بالحياة،تحولت إلى مقبرة صامتة.
قريبا من المكان، سمع صوت محرك يزمجر ببطء.
سيارة جيسي مليئة بالغبار و الدماء بدأت بالاقتراب من المكان،عجلاتها تتحسس التربة الرطبة بصوت طقطقة خفيفة. الغبار يتصاعد خلفها كسحابة رمادية،موجهة نحو المستعمرة المدمرة كأنها عينان ترصدان الخراب.
تتوقف أخيرًا على بعد خطوات من المكان، حيث ينفتح بابها بصرير معدني يمزق الصمت،لتطئ اقدام جيسي و ميرا مقبرة الكاتوران العظمى.
امعنت ميرا النظر الا المكان بأعين واسعة من الصدمة و الذهول قائلتا بنبرة متفاجئة"ما الذي حدث هنا بالضبط؟"
ليرد عليها جيسي بوجه قلق"امتأكدة من ان هذا هو المكان؟"
نظرت ميرا الا الجدران المتداعية و البوابة المحروقة التي غطتها الجذور الزرقاء مانعتا اياها من السقوط،لتقول بعدها مأكدتا وجهة نظرها"نعم انه نفسه،المكان نفسه كما اتذكره،لكنه...مدمر"
ليبادر جيسي بالركض مباشرة ناحية البوابة لدخول المكان،لتتبعه ميرا مباشرة و عيناها لا تزالان تتجولان في المشهد المرعب. أمامها.
دخلو البوابة،ليقابلهم الخراب المروع للمكان.
تسمرت ميرا في مكانها،جسدها قشعر من بشاعة المنظر،بينما عيناها تتركزان على الجثث المشوهة التي كانت ممدة على الأرض،و الجذور التي بدت و كأنها تتغذا عليهم.
وضعت يدها على فمها بسرعة موقفتا القيئ الذي حاول الخروج من فمها،لتقول بعدها بنبرة مليئة بالخوف و الصدمة"ما،ما هذا؟الكل ميت!"
اقترب جيسي من احد الجثث متفحصا اياه،ليلاحظ انه ميت جراء طلقة مسدس ليقول بعدها بنبرة جدية"نيكولاس...لقد وصل الا هنا،و يبدو انه اتم هدفه بالكامل..."
ليكمل تقدمه داخل المكان بينما يتجول نظره حول الجثث و المباني ببطئ ،و القلق يخيم على مشاعره،مفكرا"كل هذا الدمار لم يقم نيكولاس به لوحده...لقد تدخل شيئ اخر اثناء ذالك،فهذا الدمار لا يمكن ان يسببه بشر..."
فجأة لمح جيسي شكلا غريبا من بعيد،بدا و كأن الجذور الزرقاء كانت اكثر كتافة من ناحيته.
استعدادا لأي خطر محتمل،امسك جيسي بمسدسه بإحكام،بينما حولت ميرا يدها الا متقاب لولبي ضخم مليء بالعروق من حوله.
بدأا يتقدمان بخطى حذرة،و الجذور تزداد كثاقة شيئا فشيئا،الا ان وصلو الا نقطة النهاية.
حيث كانت الجذور ملتفةً حول جثة الوحش(الوحش من الفصل السابق)،كانت عظامه بارزة و كأن شيئا ما قام بإستهلاك لحمه بالكامل،و الجذور تتغلغل بين عظامه و بقايا لحمه.
شاهدت ميرا الهيكل العظمي للوجه بأعين نصف مغلقة،و الاستغراب يخيم علي وجهها،لتنطق بعدها بنبرة مستغربة بينما ترجع يدها لشكله الاصلي"مهلا لحظة اهذا فاريجان؟انه ليس حتى من هاته المنطقة ما الذي جاء به للمناطق الامنة؟"
التفت ميرا نحو جيسي لتجده متوترا بشكل غريب،ارجع مسدسه لجيبه ببطئ ليقول بعدها بنبرة مليئة بالجدية"هذا سيئ،سيئ للغاية،هذا شيئ بالتأكيد هو سبب كل هذا،انا قلق...انا قلق من ان ما افكر به قد حصل"قال بصوت منخفض، وهو يفرك يده على ذقنه بحركة متوترة"ان واجه ايثان هذا الشيئ..."توقف عن الكلام، نظراته تعكس خوفًا متزايدًا.
ليهرع فورا بإستكشاف المكان على امل ان يجد اي دليل و لو صغير لسلامة ايثان و البقية.
في الوقت نفسه شاركت ميرا جيسي بالبحث.
تحركا بحذر بين الاكواخ المتداعية،فتشو الجثث المرمية،عيناهما تتفحصان كل زاوية بحثًا عن أي علامة قد تشير إلى مصير إيثان أو البقية.
مرت الدقائق و الساعات،الا ان وصلا الا منطقة غريبة الملامح بنسبة لهذا المكان.
ابنية حجرية عملاقة مستطيلة الشكل ملتصقة بجدران المستعمرة،10 بالجدار الايمن و 10 بالجدار المقابل،منحوت عليها نقوش دائرية مختلفة الاشكال،و كأنها زينة تزين البنايات،و في اخر المكان،كان هناك قصر عملاق،ذو منظر فاخر،جدرانه العملاقة ترتفع بشكل مهيب، متعرجة بزوايا حادة، وتتخللها فتحات ضيقة تشبه النوافذ ولكنها مغلقة بالجذور الزرقاء،لأعمدة الزرقاء الشاهقة، المغطاة بالفطر الأزرق الناعم، تحيط بالقصر كحراس صامتين.
لوحات مختلفة الاشكال معلقة بشكل مبعثر بالجدران،الارضية رغم تحطمها و تأكلها لازالت علامات الزخرفة واضحة عليها،و في منتصف المكان درج محطم كان يقود لطابق العلوي للقصر،لكن جزءًا كبيرًا منه كان مدمرًا، مما جعل الارتفاع إلى الأعلى مستحيلًا دون مساعدة.
امعنت ميرا النظر الا القصر للحظات قبل ان تكلم جيسي قائلتا"هذا قصر الملك،هنا حيث يعيش هو و اتباعه...يبدو انه هو ايضا لم يستطع الهروب"
اكمل جيسي المشي بينما رد عليها بنبرة حادة"لست مهتما،فل نتقدم فقط"
دخل الاثنان لداخل القصر،ليجدوه غارقًا في ظلام عميق،سوا اضواء خافتة تنتنج عن الفطر الازرق، مليئًا برائحة رطبة ممزوجة بنسيم خفيف يحمل رائحة الفطر و الجثث،و في احد الجدران امامهم فتحة عملاقة تقود مباشرة للحلبة.
تغلغل الاثنان داخل القصر بخطوات حذرة،كانت ميرا تراقب جمال المكان بهدوء،منبهرة من تصميمه الفخم الممزوج بالطبيعة الغريبة التي شكلتها الفطريات،بينما كان جيسي شاحب الوجه مركزا فقط على هدفه.
وصلو للفهوهة التي بالجدار،لترا اعينهم الحلبة الصامتة،بداية كل هذا الدمار.
الجليد قد ذاب ليبقا فقط ارض طينية جافة مليئة بالتشققات،المدرجات مدمرة مليئة بالجثث و الدماء،و الحطام يلمئ المكان.
علقت جيني على المنظر "مسرح الموت... يا رجل هذا الملك مهووس بالعصور المظلمة لإليفار،فوق ما انه يجبر جنوده على استعمال الدروع و السيوف قام ببناء هذا؟بجدية"
لكن فجأة، انتبه الاثنان إلى وجود هيكلين حجريين غريبين في منتصف الحلبة،حجرين من الحطام بدا و كأنهما وضعا هناك عمدا،وكأنهما قبران شيدا من شخص ما.
لكن الاغرب،ان كل الجذور التي كانت تحيط بالحلبة،كانت تجتمع فوق القبر الايسر تجتمع في نقطة معينة، حيث تتشابك جميعها فوق القبر الأيسر بشكل متحد و متماسك،تمتمد للأسفل داخل القبر،و كأنه شجرة عملاقة.
اتسعت عينى ميرا في ذهول قائلتا بنبرة مندهشة"اتسائل ما الذي حدث ليصل كل هذا؟..."
التفت ميرا ناحية رفيقها هامستا بنبرة مشدودة"ما رأيك عن كل هذا؟"
لكن جيسي تجاهلها تمامًا،عيناه مثبتتان على القبرين بتركيز شديد،و هو يتقدم ناحيتهم بخطوات حازمة رغم التوتر الملحوظ في ملامحه.
توقف امام القبر الايسر،نظر اليه بهدوء لبضعة ثوانٍ قبل ان يتكئ على ركبتيه و يبدأ بالحفر مستعملا يديه.
لتتبعه ميرا مباشرة بادئتا بمساعدته بينما تقول بنبرة بإبتسامة خفيفة على وجهها"دعنى نساعدك قليلا يا رجل لا تقم بكل شيئ بمفردك"
لم يستجب جيسي لمزاحها،بل اكتفى بالحفر بصمت،لتدرك بعدها انه ليس الوقت المناسب للمزاح و تكمل الحفر معه بتركيز.
بعد دقائق من الحفر الشاق،انتهى الاثنان من الحفر،نظر جيسي الا ما في داخل القبر بأنفاس مرهقة.
داخل القبر،بقايا جثة ميتة،لم يتبقى منها سوا جزء من البطن الا اسفل القدمين،و احشائها تسللت خارج الجزء المقطوع،و كأن مخلوقا ما قام بأكل ذالك الجزء،و ذراع سوداء ملقية بجانب ما تبقى من جثثه.
بقي جيسي يتفحص الجثة بصمت،عيناه تلتقطان التفاصيل المروعة بعناية، لكن فور أن وقعت نظراته على الذراع السوداء، اتسعت عيناه في صدمة ورفض التصديق، نظراته تحولت إلى تعبير من الذهول الممزوج بالخوف،كأنه رأى شبحًا،ثم نهض على قدميه مباشرة.
ميرا، التي كانت تحفر بجانبه، رفعت رأسها نحوه، وقالت بنبرة مشدودة"ما الامر؟"
بقي الاخير صامتا لثوانٍ، و مزيج من الحسرة و الخوف هيمنت على ملامحه،ليهمس بعدها بنبرة مكسورة"هاته الجثة...انها لنيكولاس"
شعرت ميرا برعشة تمر في جسدها فور سماعها لكلامه،التفت بسرعة للجثة محاولتا التأكد من كلامه،اللون الاسود الذي ميز نيكولاس عن غيره زادت من ارتباكها، لكن شيئًا ما في شكل القدمين أو بقايا الثياب الممزقة بدا مألوفًا،من ما اكد لها انه نفسه.
فتح فمها بشكل بسيط،و الحزن و الحسرة تغلغلى في ملامحها،لتقول بعدها بنبرة مليئة بالحزن"نيكولاس..."
بمزيج من الرعب و القلق،وجه جيسي اصبعه ناحية القبر الاخر قائلا لجيني بلهجة سريعة"حولي ذراعك لمتقاب و احفري القبر الاخر بسرعة!"
حولت ميرا يدها الا متقاب،لتقوم بقطع الجذور المحيطة بالقبر و بنفس الوقت الحفر بأسرع وقت ممكن.
التراب طار من حولها بينما كانت تحفر باستماتة،و الجذور تناترت بالارجاء.
بينما وقف جيسي بجانبها،قبضته مشدودة على قبعته و عيناه تعكسان قلقا و خوفا لا يقاسان"لا،لا،لا،لا،لا يمكن ان ينتهي الامر بهاته الطريقة"
توقفت ميرا، عيناها تتحركان بسرعة فاحصتا الجثة التي قابلتها،فجأة بدأت الدموع بالانهيار من عينيها،و رجعت ذراعها لحالتها الطبيعية،اثناء ما سقطت على الارض لتبدأ بالبكاء بشكل هستيري.
قلب جيسي كان على وشك السكوت،اقترب جيسي بخطوات متثاقلة، أنفاسه تتسارع مع كل خطوة، وكأن صدره لم يعد يحتمل الهواء الثقيل الذي يملأ المكان. جثا على ركبتيه بجانب القبر الثاني.
ليجد جثة فتاة،ميتة بنفس طريقة نيكولاس،يخرج من جثثها نفس الجذور المنتشرة بالخارج،مغروسة بالتربة من حولها و كأنها تجذرت اكثر و اكثر بالمكان،بينما ملئت بقيتها الفراغ البسيط الموجود بالقبر.
نطقت ميرا بصوت يلمئه الحزن و الحسرة"ج.جيني...لم تستحقي اي من هذا...لم تفعلي اي شيئ خاطئ"
نهظ جيسي من على الارض بإرتباك،نظر يمينا و شمالا،و كأنه يبحث عن شيئ ما،ليقول بعدها بنبرة مضطربة، تتخللها نبرة يائسة وذعر خفي"أين هو؟... أين إيثان؟!من المفترض ان يكون معهم"
بدأ يتلفت في كل اتجاه، عيناه تتحركان بسرعة، تبحثان بين الركام، بين الجثث، بين الجذور الزرقاء التي تنبض بخفوت تحت الأرض.
كان صوته يزداد اضطرابًا مع كل ثانية تمر:
"كانوا معًا... نيكولاس، جيني، وإيثان كانوا معًا! إن كانا هنا... فلا بد أن..."
هدأ فجأة،ثم نظر الا ميرا بأعين واسعة يملؤها مزيج من الصدمة والأمل، قال بصوت متقطع، يكاد لا يُصدق ما ينطق به"لا بد انه قد نجى"
رفعت الأخيرة رأسها نحوه ببطء، ودموعها لا تزال تنساب على خديها"ما الذي تقوله...سيكون ميتا هو الاخر،ليس هنالك امل..."
اقترب منها أكثر، ووجهه يعكس مزيجًا من الرجاء والجنون"لا، فكّري معي، ميرا! لو كان ميتًا، لوجدنا جثته هنا معهما، نيكولاس وجيني سقطا معًا،لا بد ان ايثان قد عاش و هو من قام بدفن جثثهما"
مسحت ميرا عينيها،و الحزن لا يزال يخيم على ملامحها"انت محق...قد يكون حياً...لكن ذالك لا يغير حقيقة ان صديقينا قد ماتا"
انخفض رأس جيسي ببطء،رمى نظرة أخيرة على القبرين، ثم قال بصوت خافت"انت محقة،لقد ماتا...ولا يوجد شيئ يمكنه اعادتهما للحياة...لذالك على الاقل دعينا نحترم موتهما"
تقدم نيكولاس ناحية قبر نيكولاس،و بدأ بإعادة ملئ قبره بالتربة.
امعنت ميرا النظر اليه للحظة،لتتبعه و تبادر برمي التراب على قبر جيني،و عيناها يعكسان حزنا غير مسبوق،هامستا بنبرة خافتة"كنت ستكونين صديقة جيدة،جيني..."
بعد عدة دقائق،و بعد ان انتهو من دفنهم،بقي كلاهما صامتين،واقفين في مكانيهما،ناظريين الا قبور اصدقائهم لأخر مرة.
التف الرفيقان بالجهة المعاكسة للقبرين،ليبدأا بالمشي بخطى منتظمة بعيدا عنهما.
دموع الحزن و الحسرة على ميرا.
و شعلة العزيمة و الامل في اعين جيسي.
"مهمى كلفني الامر،مهمى تكبدت من خسائر،سوف اجدك"
(في مكان اخر)
ارض قاحلة،مليئة بالاشجار الميتة،و الخردة المعدنية الملقية من مكان لأخر،و شمس حارقة توجه نورها الحارق على الارض.
الهواء ساكنٌ إلا من همسات الرياح الجافة التي تمرّ بين أغصان الأشجار الميتة، تُصدر صريرًا أشبه بأنينٍ قديم.
تلال من التراب المتحجر تمتد على مدّ البصر، تتخللها حفر غائرة وبقع رمادية داكنة، وكأن الأرض احترقت في معركةٍ لم تُروَ تفاصيلها.
كل شيء هنا صامت، جامد، يختنق تحت وهج الشمس، حتى الزمن نفسه بدا وكأنه توقف عن السير.
وفي البعيد، من بين الأشجار الميتة، كان هناك ظلّ يتحرك.
خطواته بطيئة، متعثّرة،اثار اقدامه تطبع على التربة من تحته.
يرتدي حقيبة قديمة،معلق فيها بندقية يدوية الصنع.
يرتدي ملابس سوداء ذو اكمام قصيرة،ذراعه اليسرى مبتورة و مغلفة بملابس طغى عليها لون الدم.
عيناه خاليتان من الحياة،و العرق امتزج بالغبار على وجهه،وخطوط التعب العميقة رسمت على ملامحه.
ايثان،بيده السليمة كان يمسك وشاحا احمر اللون،واضعا اياه فوق رأسه ليحمي نفسه من اشعة الشمس.
و مع كل نسمة هواء تمرّ، يتطاير رماد دقيق حوله، يلتصق بملابسه.
اقترب من تل صغير كان يوفر بعض الظل،ليجلس مباشرة لأخذ قسط من الراحة.
نزع الحقيبة من ظهره ثم وضعها على الارض،ليقوم بفتحها،مخرجا قطعة خبز صغيرة.
أمسك قطعة الخبز بين أصابعه،و بدأ بأكلها ببطئ،بينما رفع عينه نحو الأفق الواسع الموحش، وكأن كل شيء حوله صار صامتًا أكثر من أي وقت مضى.
(نهاية الفصل...)
