"هيا، اجمع أوراقك واخرج من مكتبي الآن."
كانت تلك الكلمات كافيةً لتمزيق ما تبقى من كبريائي. نطق بها ذلك المدير في منتصف عمره - الذي عملت تحت إمرته لسنوات - وكانت مشوبةً باشمئزازٍ صريحٍ لم يُكلف نفسه عناء إخفائه.
"حسنًا... حسنًا."
هذا كل ما تمكنت من قوله، وأجبرت نفسي على الابتسام بشكل خافت على الرغم من الحزن العميق الذي يسحق صدري.
لقد كنت من النوع الذي يخفي آلامه وخيبات أمله وراء ابتسامة مزيفة، وأحاول دائمًا إقناع نفسي بأن لا شيء يستحق القلق بشأنه، وأن كل شيء سيكون على ما يرام في النهاية بطريقة أو بأخرى.
التقطت صندوقًا من الورق المقوى ممتلئًا حتى حافته بأوراق من السنوات التي قضيتها في العمل - أوراق أصبحت فجأة بلا قيمة - واتجهت نحو الباب.
كل خطوة خطوها خارج المكتب كانت بمثابة طعنة في روحي.
عندما وصلتُ إلى خارج مبنى الشركة، توقفتُ ونظرتُ حولي.
على يميني، كانت هناك حاوية قمامة كبيرة.
دون تردد، توجهت نحوها وألقيت الصندوق بأكمله بداخلها - ذكريات، إنجازات، وكل شيء - في لفتة رمزية لإنهاء كل شيء.
بعد أن أفرغت الصندوق، صفقت يدي معًا لإزالة الغبار، وكأنني أحاول مسح غبار السنوات الماضية.
يا له من يوم... تمتمتُ بمرارة. يبدو أن الغد سيكون أسوأ.
بدأت السير عائدا إلى المنزل وأنا أحمل ثقل العالم على كتفي.
عندما فتحتُ باب شقتي، استقبلتني رائحة كريهة مألوفة - رائحةٌ ما بين الرطوبة ورائحة الطعام المتعفن.
لكنني كنتُ منهكًا وخدرًا لدرجة أنني لم أُبالِ. دخلتُ وأغلقتُ الباب خلفي بقدمي، تاركًا حذائي عند المدخل.
توجهتُ مباشرةً نحو الثلاجة، التي كانت تُصدر صوتًا خافتًا، فتحتها وأخرجتُ آخر علبة بيرة باردة متبقية لدي.
ثم جلستُ على الأريكة البالية في منتصف غرفة المعيشة.
أمسكت هاتفي وشغلت بعض الموسيقى الهادئة للغاية - ربما لتهدئة العاصفة التي تجتاح ذهني.
شربت البيرة ببطء وانجرفت إلى بحر من الذكريات التي غمرت رأسي ...
تذكرتُ جيمس، الشاب الذي كنتُ عليه.
فتىً كريمٌ طيب القلب، درس بجدٍّ رغم ظروف عائلته البائسة ومشاكلها الكثيرة.
لم أستسلم حينها. كنتُ مؤمنًا تمامًا بأن الأمور ستسير على ما يُرام بعد حصولي على شهادتي الجامعية.
ولكن بعد تخرجي، بدأت رحلة البحث عن وظيفة طويلة.
مرّ عامان كاملان في لمح البصر.
عامان لم تُجدِ فيهما شهادتي نفعًا.
عامان من الرفض المستمر، وصبري يوشك على النفاد...
كان بلدنا فاسدًا حتى النخاع. لا توجد وظائف حقيقية. الفساد في كل مكان. الفقر يلتهم الأحياء. مشاكل لا تنتهي.
لكنني لم أستسلم.
عملت في شتى أنواع الوظائف بدوام جزئي - من غسل الصحون إلى توصيل الطلبات - فقط لأتمكن من العيش وأرسل ما أستطيع لعائلتي.
ثم في أحد الأيام، حدثت المعجزة التي كنت أدعو الله أن تحدث أخيرًا: لقد تم قبولي في شركة ضخمة - شركة إيفرست للهندسة.
بتخصصي في مشاريع البنية التحتية الضخمة والمشاريع الهندسية المتقدمة، شكّلت إيفرست فرصة ذهبية لي، فرصة لتغيير حياتي في بلدٍ كان يحاول سحق أحلامي.
شعرتُ أخيرًا أنني أستطيع جني ثمار جهدي.
قضيت خمس سنوات كاملة أعمل في إيفرست.
بذلتُ قصارى جهدي، وعملتُ لساعات طويلة، لكنني لم أحصل على ترقية واحدة.
ظل راتبي ثابتًا عند 500 دولار شهريًا، وهو مبلغ بالكاد يكفيني حتى منتصف الشهر.
لم يكن أمامي خيار سوى الاقتراض لتغطية نفقاتي الأساسية وإرسال جزء منه إلى عائلتي.
كنت أبدأ كل شهر بـ ٥٠٠ دولار،
وأنتهي منه وأنا مدين بـ ٥٠٠ دولار أخرى.
إنها دوامة لا تنتهي من الفقر والديون.
أنهيتُ آخر علبة بيرة، ووضعتُ يدي على جبهتي، محاولًا إبعاد الذكريات المؤلمة.
هذا هو المصير الذي قضيتُ حياتي هاربًا منه، والآن أغرق فيه.
"رن...رن..."
قطع صوت هاتفي أفكاري المظلمة.
نظرتُ إلى الشاشة.
إميلي.
توهج اسمها في ضوء الغرفة الخافت.
أجبت وأنا أحاول أن أحافظ على صوتي ثابتا:
"مرحبًا يا حبيبتي... كيف حالك؟"
إميلي،
صديقتي منذ ست سنوات.
التقينا في الجامعة، وتطورنا من زميلتي دراسة إلى حبيبتين نخطط لمستقبل مشترك.
كانت أملي الوحيد في هذه الحياة البائسة.
لكن صوتها لم يكن يشبه ما أعرفه.
كان باردًا، آليًا،
يحمل نبرة غطرسة لم أسمعها منها من قبل:
"اسمع يا جيمس... لا أستطيع الاستمرار في العيش مع شخص مثلك."
تجمد الدم في عروقي.
شخص مثلي؟
ماذا يعني هذا؟
قبل أن أتمكن من معالجة الصدمة، أو حتى نطق بكلمة واحدة، تابعت كلامها بلامبالاة مخيفة:
على أي حال... مع السلامة. بعد شهرين، أنت مدعو لحفل زفافي.
أغلقت الهاتف.
هكذا ببساطة.
لا تفسير. لا كلمات أخيرة. لا شيء.
ساد الصمت، ثقيلاً كالرصاص.
حدّقتُ في هاتفي بصدمةٍ مُطلقة.
في غضون ساعاتٍ قليلة، فقدتُ وظيفتي، وكرامتي، والآن حبي الوحيد الذي أعيش من أجله.
لقد تحطمت آخر قطعة من الأمل في داخلي.
تك!
انزلق هاتفي من يدي وسقط على الأرض.
دار العالم من حولي، موجات من الصدمة تتلاطم بعنف.
ولكن الصمت لم يدوم طويلا.
رنّ هاتفي مجددًا.
صدح صوته الخافت في ضباب ذهني.
التقطته.
كان الرقم غير مألوف.
أجبت بشكل ضعيف:
"…مرحبًا؟"
"مرحبًا. هل أنت ابن هيلين؟"
سأل صوت رجل من الطرف الآخر.
"نعم... نعم، أنا كذلك. ماذا حدث؟" أجبتُ وقلبي يخفق بشدة.
لم أكن أعلم أي مأساة يجب أن أحزن عليها - إيميلي التي تحطم قلبي، أم هذه المكالمة الغامضة حول والدتي.
تحدث الرجل بنبرة حزينة:
"هذا طبيب من مستشفى سانت توماس."
"نعم! ماذا حدث؟!" صرختُ، وأنا ألهث، والذعر يسيطر عليّ تمامًا.
"الحقيقة هي أن والدتك توفيت في حادث سيارة منذ ساعات قليلة."
سقط هاتفي على الأرض مرة أخرى، ولكن هذه المرة، لم يكن الشيء الوحيد الذي سقط.
انهارت ركبتي، وسقطت بالكامل.
يا إلهي... أمي ماتت؟
لا بد أن هذا حلم... نعم، حلم...
همستُ في نفسي، متشبثًا بيأسٍ بأي كذبةٍ تُخفف الألم.
لكن الحقيقة كانت قاسية.
لقد رحلت أمي،
وبقيت وحدي.
نهضتُ من مكاني، مدفوعًا بموجة جنون، واندفعتُ نحو الباب.
فتحتهُ بسرعة واندفعتُ إلى الشارع.
لم أصدق الطبيب.
رفضتُ تصديقه.
رفض عقلي الواقع تمامًا.
ركضتُ أسرع فأسرع، والعرق يتصبب على وجهي، وأنفاسي تلسع صدري.
كانت الأفكار في رأسي كابوسًا حقيقيًا.
كيف سأعيش بدون أمي؟
هذا حلمٌ لا محالة -
يا رب، احفظها.
أمي... أرجوك...
وصلتُ إلى شارعٍ مزدحم، أتعثر، أسقط، ثم أنهض، وأركض مجددًا.
حدّق بي الناس، لكنني لم أُبالِ.
لقد اندفعت إلى المستشفى وأنا أصرخ باسمها.
اقتربت مني ممرضة، محاولة تهدئتي:
"سيدي، من فضلك... تنفس، استرخي..."
ولكنني لم أستطع سماع أي شيء سوى دقات قلبي العنيفة.
هيلين... هيلين روهان! هل يوجد شخص بهذا الاسم هنا؟ لقد تعرضت لحادث سيارة!
خرجت كلماتي في شهقات محمومة.
نظرت إليّ الممرضة بشفقة عميقة.
لقد رأت الكثير من الناس يبكون، ولكن ليس هكذا قط:
شاب يرتجف بلا سيطرة، يتنفس بصعوبة، وعيناه مليئتان بظلمة عميقة، وحزن عميق.
لقد امسكت بذراعي بلطف.
"تعال معي…"
تبعتها بصمت.
بدت عيناي ميتتين - تحول البياض إلى أحمر، كما لو كان ينزف.
توقفنا عند باب يحمل لافتة مكتوب عليها بأحرف عريضة:
غرفة المشرحة
لقد تحول أعظم مخاوفي إلى حقيقة.
اقتربت الممرضة من سرير معين.
"جيمس... هنا."
لقد تقدمت للأمام.
كان هناك جسدٌ مُلقىً تحت ملاءة بيضاء.
رفعت يدي المُرتعشة الغطاء عن وجهه.
امرأة مسنة في الستينيات من عمرها.
كان وجهها مليئًا بالكدمات والدماء، لكن من الواضح أنه وجهها.
حدّقتُ بها بعينين باردتين فارغتين.
لم أستطع البكاء.
لم أستطع الصراخ.
كان الألم كبيرًا جدًا لدرجة أنه لا يمكن البكاء.
لقد كانت أملي الأخير في هذا العالم... وقد رحلت.
نزلت، وقبلت جبهتها، ثم سحبت الغطاء بلطف فوق وجهها.
ثم خرجتُ من الغرفة بهدوءٍ غريب.
ارتسمت على شفتيّ ابتسامةٌ خفيفةٌ عابرة، اختفت سريعًا كما ظهرت.
تجمدت الممرضة، وعيناها واسعتان.
"لقد... ابتسم"، همست.
غادرتُ المستشفى، وعقلي غارق في صمتٍ مُطبق.
كل شيءٍ بداخلي توقف عن العمل.
فقط ساقاي كانتا تحملاني للأمام، أتحركُ بلا هدفٍ يمينًا ويسارًا، كآلةٍ بلا روح.
وصلتُ إلى المنزل حوالي الساعة الثامنة مساءً.
كان الباب مفتوحًا قليلًا.
دخلتُ، وجلستُ على الأريكة كما لو كنتُ عائدًا من نزهة عادية، لا من الجحيم.
ماذا الآن يا جيمس؟
لقد رحلت وظيفتك.
والدتك - أمك الحنونة والحنونة - رحلت.
حبيبك، قلبك، سيتزوج.
أخبرني يا جيمس... ماذا علينا أن نفعل الآن؟
خرج صوتي خافتًا وهشًا:
"أعرف ما سأفعله... سأتبعهم."
مشيتُ ببطء نحو المطبخ.
كانت الشقة صغيرة، ولم يمضِ وقت طويل حتى وجدتُ ما أبحث عنه.
سكين مطبخ طويل يبلغ طوله حوالي ثلاثين سنتيمترًا.
التقطتها، وأنا أتطلع إلى شفرتها وهي تلمع تحت الضوء الخافت، وتنعكس الفراغ في عيني.
عدت إلى غرفة المعيشة، وأنا ممسك بالمقبض بقوة.
ملأ الظلام الغرفة، ملأ روحي.
كان الثقل في صدري لا يُطاق، وكأن العالم بأسره يسحقني.
تذكرت الكلمات القاسية، والنظرات الفارغة، والفشل الذي كان يلاحقني في كل خطوة.
ضغطتُ المعدن البارد على بشرتي.
ترددتُ للحظة.
حاول وميضٌ من نور - ذكرى قديمة، ابتسامة، وجهٌ محبوب - أن يخترق.
لكن الظلام غمره.
لم يكن هناك مفر.
لم يعد هناك مكان للهرب.
لا دموع.
فقط فراغ عميق...
واللسعة الباردة من الفولاذ.
طعن جيمس رقبته عدة مرات، مبتسمًا ابتسامة غريبة - لا خوفًا ولا ألمًا.
مع كل طعنة، تناثر الدم في كل مكان بضربات قرمزية فوضوية، غطت وجهه ويديه وملابسه.
أصبحت أنفاسه ضحلة، مختلطة بضحكة قصيرة مكسورة.
وأخيرا انهار جسده، وسقط على الأرض بلا حراك...
ابتسامة خفيفة لا تزال على وجهه -
كما لو كان يسخر من العالم للمرة الأخيرة.
***************
English is not my first language so I write in my native language first and then translate it into English.
